[مدن، زاوية جديدة على "جدلية" يكتب فيها الكتاب والكاتبات عن مدنهم المفضلة. يفتتح السلسلة الكاتب السوداني أمير تاج السرّ]
بالرغم من أنني ولدت في قرية صغيرة شمال السودان، إلا أنني ارتبطت كثيراً بمدينة بورتسودان، الميناء الذي أنشأه الاستعمار الإنجليزي، بديلاً عن ميناء مدينة سواكن المجاورة، التي غدت بعد ذلك ولزمن طويل، مجرد تاريخ مهجور تحفه الفوضى والأساطير الغامضة، بعد أن سرقت بورتسودان رونقها وعمالها، وسفن الرحيل المتعددة التي كانت تغشاها زماناً، قبل أن تنتعش من جديد مؤخراً، وتستخدم كميناء آخر، لتجارة أقل شأناً.
لقد نشأت في مدينة بورتسودان، بحكم عمل والدي موظفاً في جمارك الميناء جزءاً كبيراً من حياته. خبرت شوارعها وبيوتها، وظمأها وارتواءها، وفرحها وحزنها. درست في مدارسها القديمة المتهالكة، انتقلت منها عدة مرات، وعدت إليها. وحين انتهيت من دراستي الجامعية، في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، عدت لأعمل في مستشفاها العتيق، الذي استخلصت منه كثيرا من الخبرة، وكثيراً من التجارب التي ظهرت فيما بعد في نصوصي الروائية. وكانت لي عيادة طبية في حي شعبي، شبه عشوائي، لم تفدني مادياً قط، لكنها منحتني الحي، وشخوصه وحكاياته، وكثيراً من المواقف المربكة، التي كتبتها روايات، وأجزاء من سير ذاتية بعد ذلك، روايات مثل: العطر الفرنسي، و٣٦٦، وسيراً مثل مرايا ساحلية، وقلم زينب.
وبالرغم من غربتي الطويلة في بلاد الخليج العربي، إلا أنني ما زلت أعود إلى ما سميتها المدينة الزهرة، أعود في كل عام، أتفقد بيتاً محطماً، بجوار سينما الخواجة المحطمة أيضاً، بآليات محو القديم من الذاكرة، وإنبات جديد، ربما يعلق في ذاكرة الأجيال الجديدة. كان ذلك بيتنا، أتفقد آثار حديقة كانت عامرة، و أزيلت، لينمو مكانها برج إسمنتي، كان اسمها حديقة الشهيد، وكانت ميداناً خصباً للعب الطفولة. وأمشي في الشوارع الجديدة، والأسواق التي تغيرت ملامحها كثيراً، لكني أمشي بخطواتي القديمة، وأشاهد الجديد، بعيني القديمة التي تستوطنها الذكريات.
المدينة في رأيي، ساحر عظيم، تملك مئات الحيل لإبقاء عاشقها مرتبطاً بها، حتى لو هجرها، وتبدو لي بورتسودان كذلك، بالرغم من ثوبها الجديد الذي كنت أتابع تفصيله وخياطته في سنوات غربتي، وآتي في كل صيف لأرى قطعة قديمة، قد تمزقت، وقطعة جديدة أضيفت. وفي العام الماضي وقفت طويلاً أمام أول بيت وعيت فيه، وكان على وشك أن يمحى تماماً، تذكرت وصفي للبيت في كتابي مرايا ساحلية، بأنه من حجر خشن، من ضمن إثني عشر بيتاً، أنبتها الاستعمار الإنجليزي، في وسط المدينة، وخصصها لموظفي الخدمة المدنية الصغار، حتى إذا كبروا، انتقلوا إلى بيوت أكثر رحابة بجانب البحر. تذكرت إطلالة البيت على السينما، وكيف أن ضيوفاً يوميين كانوا يزوروننا، ليس للزيارة في حد ذاتها، ولكن ليتسلقوا سقف البيت، ويشاهدوا الأفلام على شاشة السينما المكشوفة.
لم تكن بورتسودان مدينة صغيرة في أي يوم من الأيام، لكنها مدينة حميمة. كانت تؤوي عشرات الأجناس والأعراق، يسكنها أهل شرق السودان من قبائل البجة، والبني عامر، الذين يعملون في تعبئة السفن وتفريغها في الميناء، يسكنها مهاجرون من الشمال احتكروا بعض الأنشطة، خاصة الخدمة العسكرية، وفيها مهاجرون هنود ويونانيون، ومن أقباط مصر، شكلوا مجتمعاً أرستقراطياً إلى حد ما، واحتكروا التجارة بأنواعها، وكان فيهم شخصيات شهيرة مثل: بوبو تاجر القماش القادم من مدينة مومباي الهندية، وكان أحدب ويلقبه الوطنيون بالخواجة (أبو ظهر). كان كل مهاجر في نظر الناس خواجة، حتى لو جاء من الهند. أيضاً مهندرا طبيب الأسنان، وهارون الذي أنشأ عدة صوالين لقص الشعر، وكان ثرياً يتدافع الناس على صوالينه، تاركين الحلاقين الوطنيين. كان يوجد يني، صاحب بار الملائكة، في وسط السوق، وفائق، صاحب خمارة أخرى، حولها إلى صيدلية حين انتهى بيع الخمور في البلاد، قبل أن يترك تاريخه، ويهاجر إلى أستراليا.
ولعل سكان المدينة ما زالوا يتذكرون فهمي قرياقوس، أفضل خياط في المدينة. ذلك اليوناني الشهم، الذي اكتسب عادات البلاد كلها، بما فيها حلف الطلاق بسبب وبغير سبب، وامرأته التي كانت ترتدي الثوب الوطني، وتبدو كما وصفتها في كتابي مرايا ساحلية، كأنها لوحة وطنية، رسمت بريشة مستشرق.
كنا نعيش وسط ذلك الخليط الغريب، كل له رونقه وطعمه والمدينة واسعة الصدر تحتفي بالجميع، كل معروف في حدود حيه، والشوارع التي يمشي فيها، لكن تذوق المدينة واحد عند الجميع. المستشفى واحد، يتعالج فيه الجميع، وصيدلية بيومي، التي يملكها صيدلاني من أصل مصري، هي المكان الذي ما زال يتوفر فيه الدواء المنعدم في الصيدليات الأخرى، قديمها وحديثها.
أتطرق للأحياء المتعددة في المدينة، وقد كانت فيها أحياء معروفة في الماضي، مثل حي الإغريق وحي البحر، وحي العظمة، وحي الترانزيت، قرب المطار، وكانت وما تزال أحياء راقية، تسكنها سلالات من أسر عرفت بالثراء، أحياء الوسط المخصصة للموظفين، ببنائها الكلاسيكي الصارم، وحي المدينة الذي يعد من الأحياء الكبيرة، ويقع قريبا من الوسط، حيث الأستاد الرياضي، والساحة الشعبية المخصصة لكل الأنشطة والمهرجانات، ثم تأتي أحياء الأطراف ومعظمها أحياء شعبية للغاية، يسكنها الفقراء ومتوسطو الحال، والآن تشعبت المدينة وتمددت، ونمت أحياء أخرى جديدة، بسكان من كل الطبقات، ولتفقد المدينة كثيراً من حميميتها القديمة.
أتطرق للشوارع الكبرى، التي ما زالت كبرى، وزاحمتها شوارع أخرى كبرت مؤخراً، الشارع الذي يبدأ من محطة السكة الحديد، ويزدحم في أيام وصول القطارات، شارع البحر الذي كان خالياً يمنح متعة المشاهدة لسفن الرحيل وهي رابضة في الميناء، والآن ازدحم بالأندية، والمقاهي، شارع السوق الرئيسي، الشارع الدائري الذي يختصر مسافات بين الوسط وعدد من الأحياء الطرفية.
كثير ما يمكن أن يقال عن مدينة بورتسودان، تلك المدينة التي نشأت زهرة وما تزال تضخ الرحيق، ولعل كتابي مرايا ساحلية، من الكتب التي وصفتها كما كانت، قبل هبة التغيير الكبرى التي انتقلت إليها في هذا الزمان.